الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قال الفخر: المخاطب في قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ} من هو؟ فيه قولان: الأول: أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة. قال قتادة: والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله، والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره، ويمكن أن يقال: السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه، كما قال: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] فسقط قول قتادة، ونظيره قوله: {وَلاَ تكن مِنَ الكافرين} [هود: 42] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] {وَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8] والثاني: وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين، كأنه قيل: لا يغرنك أيها السامع. اهـ. .قال في روح البيان: .قال الفخر: الأول: نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية. والثاني: قال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية، والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد، تصرفهم في التجارات والمكاسب، أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب. ثم قال تعالى: {متاع قَلِيلٌ} قيل: أي تقلبهم متاع قليل، وقال الفراء: ذلك متاع قليل، وقال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل. ثم قال تعالى: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} [آل عمران: 178] وقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]. ثم قال: {وَبِئْسَ المهاد} أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار. اهـ. .قال الزمخشري: قلت: فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعًا، فكأنه قيل: لا يغرنكم والثاني: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه، كقوله: {وَلاَ تَكُنْ مع الكافرين} [هود: 42]، {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14]، {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ} [النساء: 36] وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب. اهـ. .قال أبو حيان: . اهـ. .قال القرطبي: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [والقلم: 45]. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55]. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] دليل على أن الكفار غير مُنْعَم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوصُ من شَوائب الضررِ العاجلة والآجلة، ونعم الكفار مَشُوبَةٌ بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدّم بين يدي غيرهِ حلاوة من عسل فيها السُّمّ، فهو وإن استلذّ آكله لا يُقال: أُنعِم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه. ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعرِي. وذهب جماعة منهم سيف السنة ولِسان الأمة القاضي أبو بكر: إلى أن الله أنعم عليهم في الدنيا. قالوا: وأصل النَّعمة من النعمة بفتح النون، وهي لين العيش؛ ومنه قوله تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27]. يُقال: دقيق ناعم، إذا بُولِغ في طحنهِ وأُجيد سحقه. وهذا هو الصحيح، والدليل عليه أن الله تعالى أوجب على الكفار أن يشكروه وعلى جميع المكلّفين فقال: {فاذكروا آلاءَ الله} [الأعراف: 74]. {واشكروا للَّهِ} [البقرة: 172] والشكر لا يكون إلا على نعمة. وقال: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] وهذا خطاب لقارون. وقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} [النحل: 112] الآية. فنبّه سبحانه أنه قد أنعم عليهم نِعمة دُنيْاوِية فجحدوها. وقال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83] وقال: {يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3]. وهذا عامّ في الكفار وغيرهم. فأما إذا قدّم لغيره طعامًا فيه سمّ فقد رفق به في الحال؛ إذْ لم يجرعه السمَّ بحتًا، بل دَسّه في الحلاوة، فلا يستبعد أن يُقال: قد أنعم عليه، وإذا ثبت هذا فالنِّعَم ضربان: نِعَمُ نفْع وَنِعَمُ دفْع؛ فنِعم النفعِ ما وصل إليهم من فنون اللذات، ونِعم الدفعِ ما صرف عنهم من أنواع الآفات. فعلى هذا قد أنعم على الكفار نِعم الدفع قولًا واحدًا؛ وهو ما زُوِيَ عنهم من الآلام والأسقام، ولا خلاف بينهم في أنه لم يُنعم عليهم نَعمة دِينيه. والحمد لله. اهـ. .قال السمرقندي في معنى الآيتين: ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين، ومعناه: لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم في البلاد، لأن ذلك {متاع قَلِيلٌ} لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش، وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف، وكان المؤمنون في ضيق وشدة، فأخبر الله تعالى بمرجع الكفار في الآخرة، وبمرجع المؤمنين فقال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} أي ما هم فيه من العيش والسعة، فإنما هو متاع أي يفنى بعد وقت قريب. قوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إلى جهنم {وَبِئْسَ المهاد} بئس موضع القراء في النار، وبئس المصير إليها، فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم. اهـ. .قال ابن عطية: وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {لكنّ الذين}، بشد النون، وعلى أن {الذين} في موضع نصب اسمًا ل لكنّ، و{نزلًا}: معناه تكرمة، ونصبه على المصدر المؤكد، وقرأ الحسن: {نزْلًا} ساكنة الزاي، وقوله تعالى: {وما عند الله خير للأبرار} يحتمل أن يريد: خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له، أما الكافر فلئلا يزداد إثمًا، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار. قال أبو محمد: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، فقال القاضي ابن الطيب: هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله صحته جنة بالإضافة إلى جهنم، وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه، فهو فيها كالمعنت المنكل، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته، والدنيا جنة الكافر، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير، وليس ينتظر في الآخرة ثوابًا، فهذه جنته، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول. اهـ. .قال أبو السعود: .قال الألوسي: وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلًا متضايفان، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببًا للآخر بل هما معًا في درجة واحدة، فالأولى أن يقال: علق النهي بكون التقلب غارًا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية، وبعض فسره باليهود، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت، وإلى ذلك ذهب الفراء، والقول الأول أظهر، وأيًا مّا كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم} بالنون الخفيفة. {متاع قَلِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب، وفيما رواه مسلم مرفوعًا: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه- وأشار يحيى بالسبابة- في اليم فلينظر بم ترجع»، وقيل: إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مؤنة السعي وتحمل المشاق فضلًا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده {ثُمَّ} أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها. {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} التي لا يوصف عذابها {وَبِئْسَ المهاد} أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم، وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم. اهـ. .قال ابن عاشور: اعتراض في أثناء هذه الخاتمة، نشأ عن قوله: {فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم} [آل عمران: 195] باعتبار ما يتضمّنه عدَمُ إضاعة العمل من الجزاء عليه جزاء كاملًا في الدنيا والآخرة، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون، وهم المراد بالذين كَفَروا كَمَا هو مصطلح القرّاء.
|